يقع على الاجتماعيِّ ما يقع على السّياسيِّ والاقتصاديِّ والثّقافيِّ من حالاتِ استقرارٍ وفوضًى.
قد تقع عليه هذه الحالة أو تلك في الوقت عـينِه الذي يسري فيه مفعولها في صعيدٍ آخر من الصُّعد الاجتماعيّة؛ والغالب على ذلك أن يحصل في لحظات التّـأزُّم الشّامل، وقد يتأثّـر منفرداً بهذه الحال أو بتلك من غير أن تسريَ أحكامُها على غيره. في الأحوال جميعاً، يتقـرّر استقرارُ مجتمعٍ أو فوضاهُ بتأثيرٍ من جملةٍ من العوامل - أو من واحدٍ منها - قد يكون من أَظْهـرِها عاملان اثنان: عامل الاندماج الاجتماعيّ والمستوى الذي بلغه في المجتمع؛ وعامل قـوّة الدّولة والنّظام السّياسيّ ومدى اكتسابهما إيّاها أو افتقارهما إليها.
حين يُحْـرِز مجتمعٌ مّا نصيباً كبيراً من الاندماج الاجتماعيّ بين فئاته؛ أي حين تمَّحي - أو تتآكـل إلى حـدٍّ بعيد - الانقساماتُ الأهليّة فيه فتتوقّـف عمليّةُ التّبنْيُـن والاصطفاف فيه عن أن تكون على أسس تقليديّة وعصبويّة (عموديّـة)، لتـتّخذ شكلاً اجتماعيّاً - طبقـيّاً مَبْناهُ على التّفاوت في العلاقات الاجتماعيّة الإنتاجيّة، تتضاءل فيه الأسبابُ الحاملةُ على انتقال العلاقات بين فئاته وطبقاته من حالة التّبادل الاجتماعيّ والتّنافُـس والصّراع السّلميّ إلى حالة التّنازع الأهليّ المتوسِّـل أدوات العنف، هذا إنْ لم ترتفع أسبابُها رأساً. أمّا حين يعجز المجتمع عن تحقيق قـدْرٍ من الانصهار بين جماعاته في تكوينٍ اجتماعيّ مندمج ومتعالٍ عن الانقسامات الأهليّة؛ وحين تَعْصَوصِبُ جماعاتُه على نفسها وتنغلق أمام غيرها، ويميل المنتمون إليها إلى التّعبير عن الولاء لجماعاتهم الأهليّة وعصبيّاتهم لا للدّولة والوطن، فإنّ أيلولةَ مثـل هذا المجتمع إلى الفوضى وعدم الاستقرار تَـكُون.
الفارق بين مجتمع الاستقرار ومجتمع الفوضى، إذن، هو عينُه الفارق بين مجتمع السِّلم المدنيّة ومجتمع الحرب الأهليّة؛ بين مجتمع البناء ومجتمع التّخريب. وليس معنى هذا أنّ مجتمع الاستقرار- المحصَّن بالاندماج الاجتماعيّ - خِلْـوٌ من أيّ لـونٍ من ألوان الصّراع بين مكوّناته الاجتماعيّة (من طبقاتٍ وفئات)، بل هو يشهد على أشكالٍ عدّة منها يحْمل عليها، موضوعيّـاً، تضارُبُ المصالح والنّزاعُ عليها. غير أنّ المجتمع هـذا - خلافاً لمجتمع الحرب الأهـليّة العصبويّ - يستطيع أن يستوعبها ويعقلنها من طريق القواعد التي يرسمها لها، فيمنع بذلك من أن تتحوّل إلى نزاعاتٍ عنيفة أو دمويّة أو مُودِية بالاستقرار والسّـلم الاجتماعيّين.
على أنّ فعْل هذا العامل (= الاندماج الاجتماعيّ) وقْـفٌ على وجود دولةٍ قويّة ونظامٍ سياسيّ متماسكٍ وشرعيّ، وعلى نجاعةٍ في أدائهما وظيفةَ تنظيم المجتمع وإنتاجِ أسباب صهر تناقضاته الأهليّة وتوليد علاقات الاندماج فيه؛ تلك التي تجد أعلى تَبـدِّياتها في سيادةِ نظامِ المواطَنة الذي يقضي بتصنيع ولاءٍ أعلى مشترك هو الولاء للدّولة/ الوطن. ما من إمكانٍ لتحقُّقِ اندماجٍ اجتماعيّ في مجتمعٍ لا تقوم فيه دولةٌ قويّة، ولا يسيطر فيه نظامٌ سياسيّ يتمتّع بقدرٍ من التّمثيليّة يمنحه شرعيّة؛ ذلك أنّ الاندماج الاجتماعيّ من منتوجات الدّولة في المقام الأوّل؛ إنّه ليس معطًى من معطيات المجتمع بل مشروعٌ يُبْنَى بناءً اجتماعيّـاً- سياسيّـاً من قبل الدّولة، ومن خلال برنامجٍ من التّنميّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة الشّاملة. إنّ الدّولة القويّة المستقرّة وحدها تملك أن تصنع استقرارَ الصّعيد الاجتماعيّ من طريق تَهْيئتِها شروطَه (الاندماج الاجتماعيّ). في المقابل، فإنّ فرص تمتُّـع الاجتماعيِّ بالاستقرار في أيّ بلـدٍ يتضاءل كلّما كان كيانُ الدّولة فيه هشّاً أو عُرضةً لموجاتٍ من التّـأزّم السّياسيّ العاصف. أمّا حين تفـقد الدّولة - ومعها النّظامُ السّياسيّ - القدرة على أداء أضعف أدوارها في إدارة شؤون المجتمع على قواعد السّلم فإنّ ذلك يفتح الاجتماعيَّ على فوضًى عارمة تفـتك بوحدته!
من البيّن، إذن، أنّ كلمة السّـرّ في موضوع الاستقرار والفوضى في أيّ مجتمع هي الدّولة؛ إذِ الدّولة من يَصْنع من سياساتها أسبابَ هذه الحال أو تلك من الأحوال التي تَعْرِض للمجال الاجتماعيّ: تَـقْـوى وتتماسك ثمّ تستقـرّ لها الأحوال، فيقوى المجتمعُ، بالتَّبِعة، ويتماسك وتستقرّ أحوالُه، والعكس صحيح. إذا كان من فروق بين مجتمعاتنا العربيّة، مثلاً، والمجتمعات الغربيّة أو مجتمعات شرق آسيا أو بعض مجتمعات أمريكا اللاّتينيّة على صعيد درجة الاستقـرار أو الفـوضى فيها - وهي فروقٌ هائلة - فإنّ مردّها إلى الفوارق بين مستويات الاستقرار والقـوّة بين دُوَل هذيْن العالميْن. في كلّ مجتمعٍ من مجتمعات العالم من التّـكوينات الاجتماعيّة الباعثة على النّزاعات ما في المجتمعات العربيّة، غير أنّ إنتاج الاستقرار في المجتمعات الأخرى من ثمرات النّظام السّياسيّ الذي يَـقْوى على تصنيع موادّ لحمتها وعلى حفْـظ استقرارها.